الاثنين، 31 أكتوبر 2011


قريبا من التاريخ، بعيدا عن العالم
مصطفى المسناوي
هل يمكن قراءة الفيلم الوثائقي العربي ضمن التاريخ العام للسينما الوثائقية العالمية أم أن هذا الفيلم يتوفر على "خصوصية" من نوع ما تتطلب قراءته ضمن تاريخ خاص؟
يطرح هذا السؤال، تحديدا، بحكم ما يبدو من "اختلاف" التجربة العربية في هذا المجال عن غيرها من التجارب العالمية، سواء على مستوى إبداع الفيلم الوثائقي أو على مستوى تلقيه وتصور طبيعته بصفة عامة. مما قد يفتح الباب واسعا أمام كثير من التأويلات ومحاولات الفهم والتفسير.
لقد ظهر الفيلم الوثائقي في أوروبا (والولايات المتحدة بعدها) - في ارتباط مع ظهور الأفلام السينمائية الأولى - باعتباره تعبيرا عن الواقع الحي، أي عن حياة الناس العادية كما يمكن تلمسها في محيطنا المباشر ("الخروج من مصنع لوميار"، "دخول القطار إلى المحطة"،...)، وارتبط، من ثمة، بمفهوم الاكتشاف ومعرفة العالم. لكن ظهور هذا النوع من الأفلام في العالم العربي اتخذ وجهة مختلفة تتمثل في الانشغال بتغطية نشاط الدولة (أو الدول) القائمة ممثلا في التحركات والتنقلات التي تقوم بها الطبقة السياسية أو الحكام العرب على وجه الخصوص.
هكذا اهتم أول فيلم وثائقي (تسجيلي) مصري بتصوير "زيارة الجناب العالي للمعهد العلمي في مسجد سيدي أبي العباس" (1907)، كما اهتم أول فيلم وثائقي فلسطيني بتصوير "زيارة الملك عبد العزيز" (1935) لفلسطين؛ وبالتالي لم يخرج تصور السينما الوثائقية، لدى مخرجيها كما لدى حكام الدول العربية وقتها، عن تصور التأريخ لأنشطة هؤلاء الحكام، في نسخ غريب لوظيفة المؤرخ ونقلها من مجال التدوين المكتوب إلى مجال التصوير السينمائي.
وبعبارة أخرى فلم يكن واردا على الإطلاق أن يذهب المخرج الوثائقي باتجاه "اكتشاف" موضوعات جديدة أجدر بالمعرفة في الجهة المقابلة لجهة "الأنشطة الرسمية"؛ وذلك بالرغم من أن الأفلام الوثائقية القصيرة الأولى التي صورتها أولى شركات الإنتاج الغربية في العالم العربي كانت تذهب، تحديدا، في هذا الاتجاه (مجموعة الأفلام التي صورها مبعوثو الأخوين لوميير في مشرق العالم العربي ومغربه، مثلا)، بما جعل السينما الوثائقية في العالم العربي (وباستثناء فترة مؤقتة عابرة) تتحول إلى ما يشبه "الجريدة المصورة" (وهذا هو الاسم الذي أطلق عليها فعلا) التي تنقل للمشاهدين أخبار الأنشطة الرسمية للدولة أو الحكومة بشكل دعائي فج. وهو الأمر الذي تواصل في مختلف بلدان العالم العربي إلى ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، أي إلى الفترة التي ظهر فيها جهاز التلفزيون وصار يلعب، باقتدار، دور "الأداة الإيديولوجية للدولة" بدون منازع.
خلال تلك الفترة الطويلة نسبيا والتي تزيد على نصف قرن من الزمان (تفصل بين تصوير أول فيلم وثائقي عربي ودخول جهاز التلفزيون إلى البيوت) حصلت تطورات عديدة في العالم (شرقه وغربه) على مستوى فهم الفيلم الوثائقي والتنظير له، لم يكن لها أدنى تأثير على الفيلم الوثائقي العربي الذي ظل حبيسا لنقطة انطلاقه الأولى. وكان أقصى ما يطمح إليه المخرج العربي لهذا النوع من الأفلام هو أن يتمكن من إبراز بعض قدراته التقنية الخاصة في تناول موضوع محدد أصلا حتى بطريقة معالجته.
خارج العالم العربي كانت هناك ( في عشرينات القرن الماضي بالخصوص) اجتهادات كل من الأمريكي روبرت فلاهرتي (1884-1951) في فيلمه "نانوك الشمال" (1922)، والروسي دزيغا فيرتوف (1895- 1954) في تنظيراته حول "السينما- الحقيقة" التي تعتبر أن وظيفة الكاميرا لا تتمثل في إعادة تصوير الواقع الخام بقدرما تتمثل في بناء حقيقة جديدة لا يمكن للعين البشرية أن تدركها من تلقاء ذاتها؛ كما كانت هناك اجتهادات البريطاني جون غريرسون (1898-1972) الذي يعتبر واحدا من أهم واضعي الأسس النظرية للفيلم الوثائقي، إضافة إلى الهولندي يوريس إيفانس (1898- 1989)، والألماني والتر روتمان (1887- 1941) ... على سبيل العد لا الحصر.
هذه التطورات التي تلاحقت في العقود الثلاثة التالية، وكان لها تأثير على تصور الفيلم الوثائقي والتسجيلي معا (كما تجلى في اتجاهات من قبيل "السينما الحرة" في بريطانيا، و"الموجة الجديدة" في فرنسا، وحركة "الأندرغراوند" في الولايات المتحدة، و"العين البريئة" في كندا...) وصولا إلى تتويج فيلم وثائقي (هو "عالم الصمت" للمخرجين الفرنسيين جاك إيف كوستو ولوي مال) بالسعفة الذهبية لمهرجان كان عام 1965؛ لم يدخلها الفيلم الوثائقي العربي الذي صار مكتفيا بتاريخه الخاص يؤسس مرجعياته من داخله فحسب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق